فصل: فصــل: في الولاية والعداوة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


/ وقال شيخ الإسلام بعد كلام سبق ‏:‏

وأصل ذلك العلم، فإنه لا يعلم العدل والظلم إلا بالعلم، فصار الدين كله العلم والعدل، وضد ذلك الظلم والجهل‏.‏ قال الله تعإلى‏:‏ ‏{‏وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 72‏]‏‏.‏ ولما كان ظلوما جهولا ـ وذلك يقع من الرعاة تارة، ومن الرعية تارة، ومن غيرهم تارة ـ كان من العلم والعدل المأمور به الصبر على ظلم الأئمة وجورهم، كما هو من أصول أهل السنة والجماعة، وكما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث المشهورة عنه لما قال‏:‏ ‏(‏إنكم ستلقون بعدي أثرة، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض‏)‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏(‏من رأي من أميره شيئا يكرهه، فليصبر عليه‏)‏ إلى أمثال ذلك‏.‏ وقال‏:‏ ‏(‏أدوا إليهم الذي لهم، واسألوا الله الذي لكم‏)‏‏.‏

ونهوا عن قتالهم ما صلو؛ وذلك لأن معهم أصل الدين المقصود، وهو توحيد الله وعبادته، ومعهم حسنات، وترك سيئات كثيرة‏.‏

وأما ما يقع من ظلمهم وجورهم بتأويل سائغ، أو غير سائغ ، فلا يجوز أن يزال لما فيه من ظلم وجور، كما هو عادة أكثر النفوس تزيل الشر بما هو شر منه، وتزيل العدوان بما هو أعدي منه، /فالخروج عليهم يوجب من الظلم والفساد أكثر من ظلمهم، فيصبر عليه كما يصبر عند الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر على ظلم المأمور والمنهى في مواضع كثيرة، كقوله‏:‏ ‏{‏وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ على مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 17‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 35‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 48‏]‏‏.‏

وهذا عام في ولاة الأمور وفي الرعية، إذا أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، فعليهم أن يصبروا على ما أصيبوا به في ذات الله، كما يصبر المجاهدون على ما يصاب من أنفسهم وأموالهم ‏.‏ فالصبر على الأذي في العرض أولي وأولي؛ وذلك لأن مصلحة الأمر والنهى لا تتم إلا بذلك، وما لا يتم الواجب إلا به، فهو واجب، ويندرج في ذلك ولاة الأمور‏.‏ فـإن عليهم مـن الصبر والحلم ما ليس على غيرهم، كما أن عليهم من الشجاعة والسماحـة ما ليس على غيرهم؛ لأن مصلحة الإمارة لا تتم إلا بذلك، فكما وجب على الأئمة الصبر على أذي الرعية وظلمها إذا لم تتم المصلحة إلا بذلك، إذ كان تركه يفضي إلى فساد أكثر منه، فكذلك يجب على الرعية الصبر على جور الأئمة وظلمهم إذا لم يكن في ترك الصبر مفسدة راجحة‏.‏

فعلى كل من الراعي والرعية للآخر حقوقا يجب عليه أداؤها، كما ذكر بعضه في ‏(‏كتاب الجهاد، والقضاء‏)‏ وعليه أن يصبر للآخر ويحلم /عنه في أمور؛ فلابد من السماحة والصبر في كل منهما، كما قال تعإلى‏:‏ ‏{‏وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ‏}‏ ‏[‏البلد‏:‏ 17‏]‏، وفي الحديث‏:‏ ‏(‏أفضل الإيمان السماحة والصبر‏)‏‏.‏ ومن أسماء الله‏:‏ الغفور الرحيم‏.‏ فبالحلم يعفو عن سيئاتهم، وبالسماحة يوصل إليهم المنافع، فيجمع جلب المنفعة ودفع المضرة‏.‏

فأما الإمساك عن ظلمهم والعدل عليهم، فوجوب ذلك أظهر من هذا، فلا حاجة إلى بيانه، والله أعلم‏.‏

 فصــل

في مراتب الذنوب

أما مراتبها في الآخرة، فله موضع غير هذا، وإنما الغرض هنا مراتبها في الدنيا ـ في الذم والعقاب‏.‏ وقد ذكرت فيما قبل هذا، أن الذنوب التي فيها ظلم الغير ـ والإضرار به ـ في الدين والدنيا، أعظم عقوبة في الدنيا، مما لم يتضمن ضـرر الغير، وإن كان عقوبة هذا في الآخرة أكبر، كما يعاقب ذووا الجرائم من المسلمين بما لا يعاقب به أهل الذمة من الكافرين، وإن كان الكافر أشد عذابا في الآخرة من المسلم‏.‏ ويعاقب الثاني على عدالته، مثل شارب النبيذ متأولا‏.‏ والبغاة المتأولين، بما لا يعاقب به الفاسق المستسـر بالذنب‏.‏ ويعاقب /الداعي إلى بدعة، والمظهر للمنكر، بما لا يعاقب به المنافق المستسر بنفاقه من غير دعوة للغير‏.‏ فهذه أمثلة في الكافر والفاسق‏.‏ وفي الفاسق والعدل، وفي المنافق والمؤمن المظهر لبدعة أو ذنب‏.‏ وبينت سبب ذلك‏:‏ أن عقوبة هؤلاء من باب دفع ظلم الظالمين عن الدين والدنيا، بخلاف من لم يظلم إلا نفسه، فإن عقوبته إلى ربه‏.‏

وجماع الأمر‏:‏ أن الذنوب كلها ظلم، فأما ظلم العبد لنفسه فقط، أو ظلمه مع ذلك لغيره، فما كان من ظلم الغير، فلابد أن يشرع من عقوبته ما يدفع به ظلم الظالم عن الدين والدنيا، كما قال تعإلى‏:‏‏{‏أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ على نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 39‏]‏‏.‏ فجعل السبب المبيح لعقوبة الغير التي هي قتاله‏:‏ ‏(‏أنهم ظلموا‏)‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏وَقَاتِلُوهُمْ حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ على الظَّالِمِينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 193‏]‏، فبين أن الظالم يعتدي عليه، أي‏:‏ بتجاوز الحد المطلق في حقه، وهو العقوبة، وهذا عدوان جائز، كما قال‏:‏ ‏{‏فَمَنِ اعْتَدَي عليكُمْ فَاعْتَدُواْ عليه بِمِثْلِ مَا اعْتَدَي عليكم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 194‏]‏‏.‏

وقول بعضهم‏:‏ إن هذا ليس بعدوان في الحقيقة، وإنما سماه عدوانا على سبيل المقابلة، كما قالوا مثل ذلك في قوله‏:‏ ‏{‏وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا‏}‏ ‏[‏الشوري‏:‏ 40‏]‏‏.‏ لا يحتاج إليه؛ فإن العدوان المطلق، هو مجاوزة الحـد المطلق، وهذا لا يجوز في حقه إلا إذا اعتدي، فيتجاوز الحد في حقه بقدر تجاوزه‏.‏/والسيئة اسم لما يسوء الإنسان؛ فإن المصائب والعقوبات تسمي سيئة في غير موضع من كتاب الله تعإلى‏.‏

والظلم نوعان‏:‏ تفريط في الحق، وتعد للحد‏.‏ فالأول ترك ما يجب للغير مثل ترك قضاء الديون، وسائر الأمانات، وغيرها من الأموال‏.‏ والثاني الاعتداء عليه، مثل القتل، وأخذ المال، وكلاهما ظلم ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه‏:‏ ‏(‏مطل الغني ظلم، وإذا اتبع أحدكم على مليء فليتبع‏)‏، فجعل مجرد المطل الذي هو تأخير الأداء مع القدرة ظلمًا، فكيف بالترك رأسًا‏؟‏ وقد قال تعإلى‏:‏‏{‏وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاء قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَي عليكم فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَي النِّسَاء الَّلاتِي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَن تَقُومُواْ لِلْيَتَامَي بِالْقِسْطِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 127‏]‏‏.‏ قالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ‏:‏ هي إلىتيمة تكون في حجر وليها، فيريد أن يتزوجها بدون أن يقسط لها في مهرها‏.‏ فسمي الله تكميل المهر قسطا، وضده الظلم‏.‏

وهذا في الجملة ظاهر، متفق عليه بين المسلمين‏:‏ أن العدل قد يكون أداء واجب، وقد يكون ترك محرم، وقد يجمع الأمرين، وأن الظلم ـ أيضا ـ قد يكون ترك واجب، وقد يكون فعل محرم، وقد يجمع الأمرين‏.‏ فإذا عرف هذا؛ وقد عرف أن العدل والظلم يكون /في حق نفس الإنسان، ويكون في حقوق الناس ـ كما تقدم وقد كتبت فيما تقدم من القواعد وفي آخر مسودة الفقه كلاما كليا، في أن جميع الحسنات تدخل في العدل، وجميع السيئات تدخل في الظلم، فإنه يتبين بهذا مسائل نافعة‏.‏

منها‏:‏ أن أولي الأمر من المسلمين من العلماء، والأمراء، ومن يتبعهم، على كل واحد منهم حقوق للناس، هي المقصودة الواجبة منه في مرتبته، وإن لم تكن مطلوبة من غير ذلك النوع، ولا واجبة عليه؛ إذ وجوبها عليه دون ذلك‏.‏ وكذلك قد تكون عليه محرمات حرمتها عليه مرتبته، وإن لم تحرم على غير أهل تلك المرتبة، أو تحريمها عليهم أخف‏.‏

مثال ذلك الجهاد، فإنه واجب على المسلمين عموما، على الكفاية منهم، وقد يجب أحيانًا على أعيانهم، لكن وجوبه على المرتزقة الذين يعطون مال الفيء لأجل الجهاد أوكد، بل هو واجب عليهم عينا، واجب بالشرع، وواجب بالعقد الذي دخلوا فيه، لما عقدوا مع ولاة الأمر عقد الطاعة في الجهاد، وواجب بالعوض، فإنه لو لم يكن واجبًا لا بشرع ولا ببيعة إمام، لوجب بالمعاوضة عليه، كما يجب العمل على الأجير الذي قبض الأجرة، ويجب تسليم المبيع على من قبض الثمن، وهذا وجوب بعقد المعاوضة، وبقبض العوض، كما أن الأول وجوب/ بالشرع، وبمجرد مبايعة الإمام، وهو واجب ـ أيضا ـ من جهة ما في تركه من تغرير المسلمين، والضرر اللاحق لهم بتركه وجوب الضمان للمضمون له‏.‏

فإن ‏[‏المرتزقة‏]‏ ضمنوا للمسلمين بالارتزاق الدفع عنهم، فاطمأن الناس إلى ذلك، واكتفوا بهم، وأعرضوا عن الدفع بأنفسهم، أعظم مما يطمئن الموكل والمضارب إلى وكيله وعامله، فإذا فرط بعضهم وضيع كان ذلك من أعظم الضرر على المسلمين؛ فإنهم أدخلوا الضرر العظيم على المسلمين في دينهم ودنياهم، بما تركوه من القتال عن المسلمين الواجب عليهم، حتى لحق المسلمين من الضرر في دينهم ودنياهم‏:‏ في الأنفس، والذرية، والأموال، ما لا يقدر قدره أحد‏.‏

فظلم المقاتلة بترك الجهاد عن المسلمين من أعظم ظلم يكون، بخلاف ما يلحق أحدهم من الضرر، فإن ذاك ظلم لنفسه‏.‏ وكذلك ما يفعله من المعصية المختصة به ـ كشرب الخمر، وفعل الفاحشة ـ فإن هذا ظلم لنفسه مختص به، فعقوبته على ترك الجهاد وذمه على ذلك أعظم بكثير من ذمه وعقوبته على ذلك‏.‏

وإذا لم يمكن جمع العقوبتين كانت العقوبة على ترك الجهاد مقدمة على العقوبة على هذه المعاصي ، كما أن منفعة الجهاد له وللمسلمين قد /تكون أعظم بكثير من منفعة ردعه عن الخمر والفاحشة، إذا استسر بذلك، ولم يظلم به غيره، فيدفع هنا أعظم الفسادين باحتمال أدناهما‏.‏ وفي مثل هذا قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر، وبأقوام لا خلاق لهم‏)‏‏.‏ ويذم أحد هؤلاء، أو يؤجر بما فيه من عجز عن الجهاد، أو تفريط فيه، ما لا يفعل بغيره ممن ليس مرصدًا للجهاد‏.‏

وكذلك أهل العلم الذين يحفظون على الأمة الكتاب والسنة‏:‏ ـ صورة ومعني ـ مع أن حفظ ذلك واجب على الأمة عمومًا على الكفاية منهم، ومنه ما يجب على أعيانهم، وهو علم العين، الذي يجب على المسلم في خاصة نفسه، لكن وجوب ذلك عينا وكفاية على أهل العلم الذين رأسوا فيه، أو رزقوا عليه، أعظم من وجوبه على غيرهم؛ لأنه واجب بالشرع عموما‏.‏ وقد يتعين عليهم لقدرتهم عليه وعجز غيرهم، ويدخل في القدرة استعداد العقل، وسابقة الطلب، ومعرفة الطرق الموصلة إليه، من الكتب المصنفة، والعلماء المتقدمين، وسائر الأدلة المتعددة، والتفرغ له عما يشغل به غيرهم‏.‏

ولهذا مضت السنة بأن الشروع في العلم والجهاد يلزم، كالشروع في الحج، يعني أن ما حفظه من علم الدين، وعلم الجهاد ليس له/ إضاعته؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من قرأ القرآن ثم نسيه، لقي الله وهو أجذم‏)‏ ‏.‏ رواه أبو داود‏.‏ وقال‏:‏ ‏(‏عرضت على أعمال أمتى ـ حسنها وسيئها ـ فرأيت في مساوئ أعمالها، الرجل يؤتيه الله آية من القرآن ثم ينام عنها حتى ينساها‏)‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏(‏من تعلم الرمي ثم نسيه، فليس منا‏)‏‏.‏ رواه مسلم‏.‏

وكذلك الشروع في عمل الجهاد، فإن المسلمين إذا صافوا عدوا، أو حاصروا حصنا، ليس لهم الانصراف عنه حتى يفتحوه؛ ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن ينزعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه‏)‏‏.‏

فالمرصدون للعلم، عليهم للأمة حفظ علم الدين، وتبليغه‏.‏ فإذا لم يبلغوهم علم الدين، أو ضيعوا حفظه، كان ذلك من أعظم الظلم للمسلمين؛ ولهذا قال تعإلى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَي مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَـئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 159‏]‏، فإن ضرر كتمانهم تعدي إلى البهائم ، وغيرها، فلعنهم اللاعنون، حتى البهائم‏.‏

كما أن معلم الخير يصلي عليه الله وملائكته، ويستغفر له كل شيء، حتى الحيتان في جوف البحر، والطير في جو السماء‏.‏

/وكذلك كذبهم في العلم من أعظم الظلم‏.‏ وكذلك إظهارهم للمعاصي والبدع التي تمنع الثقة بأقوالهم، وتصرف القلوب عن اتباعهم، وتقتضي متابعة الناس لهم فيها، هي من أعظم الظلم، ويستحقون من الذم والعقوبة عليها ما لا يستحقه من أظهر الكذب والمعاصي والبدع من غيرهم؛ لأن إظهار غير العالم ـ وإن كان فيه نوع ضرر ـ فليس هو مثل العالم في الضرر الذي يمنع ظهور الحق، ويوجب ظهور الباطل، فإن إظهار هؤلاء للفجور والبدع بمنزلة إعراض المقاتلة عن الجهاد، ودفع العدو، ليس هو مثل إعراض آحاد المقاتلة، لما في ذلك من الضرر العظيم على المسلمين‏.‏

فترك أهل العلم لتبليغ الدين، كترك أهل القتال للجهاد، وترك أهل القتال للقتال الواجب عليهم، كترك أهل العلم للتبليغ الواجب عليهم، كلاهما ذنب عظيم وليس هو مثل ترك ما تحتاج الأمة إليه، مما هو مفوض إليهم، فإن ترك هذا أعظم من ترك أداء المال الواجب إلى مستحقه‏.‏ وما يظهرونه من البدع والمعاصي التي تمنع قبول قولهم، وتدعوا النفوس إلى موافقتهم، وتمنعهم وغيرهم من إظهار الأمر بالمعروف، والنهى عن المنكر، أشد ضررًا للأمة وضررًا عليهم من إظهار غيرهم لذلك‏.‏

ولهذا جبل الله قلوب الأمة على أنها تستعظم جبن الجندي،/وفشله، وتركه للجهاد، ومعونته للعدو أكثر مما تستعظمه من غيره‏.‏ وتستعظم إظهار العالم الفسوق والبدع، أكثر مما تستعظم ذلك من غيره، بخلاف فسوق الجندي وظلمه وفاحشته، وبخلاف قعود العالم عن الجهاد بالبدن‏.‏

ومثل ذلك ولاة الأمور، كل بحسبه من الوإلى والقاضي، فإن تفريط أحدهم فيما عليه رعايته من مصالح الأمة، أو فعل ضد ذلك، من العدوان عليهم، يستعظم أعظم مما يستعظم ذنب يخص أحدهم‏.‏

/وقال شيخ الإسلام ـ رحمه الله ‏:‏

 فصــل

في الولاية والعداوة

فإن المؤمنين أولياء الله، وبعضهم أولياء بعض، والكفار أعداء الله، وأعداء المؤمنين‏.‏ وقد أوجب الموالاة بين المؤمنين، وبين أن ذلك من لوازم الإيمان ، ونهى عن موالاة الكفار، وبين أن ذلك منتف في حق المؤمنين، وبين حال المنافقين في موالاة الكافرين‏.‏

فأما ‏[‏موالاة المؤمنين‏]‏ فكثيرة، كقوله‏:‏‏{‏إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ‏}‏‏[‏المائدة‏:‏ 55 ـ 56‏]‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَـئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَـئِكَ مِنكُمْ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏72-75‏]‏‏.‏ وقال تعإلى‏:‏ ‏{‏أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عليهمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 62،63‏]‏‏.‏

وقال‏:‏ ‏{‏لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ‏}‏ إلى آخر السورة ‏[‏ سورة الممتحنة‏]‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عليهمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 13‏]‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إلى النُّوُرِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 257‏]‏ ‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَي الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَي لَهُمْ‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 11‏]‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏وَإِن تَظَاهَرَا عليه فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 4‏]‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏فَإِنَّ اللّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 98‏]‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ على الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 23، 24‏]‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ إليهودَ وَالنَّصَارَي أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ فَتَرَي الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَي أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَي اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ على مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُواْ أَهَـؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُواْ خَاسِرِينَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ‏}‏ إلى قوله‏:‏ /‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 51-57‏]‏‏.‏ إلى تمام الكلام‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ على لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَي ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ تَرَي كَثِيرًا مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللّهُ عليهمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إليه مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء وَلَـكِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ‏}‏‏[‏المائدة‏:‏78- 81‏]‏‏.‏

فذم من يتولي الكفار من أهل الكتاب قبلنا، وبين أن ذلك ينافي الإيمان‏:‏ ‏{‏بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا إلىمًا الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعًا‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏سَبِيلاً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 138 ـ 141‏]‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ لِلّهِ عليكم سُلْطَانًا مُّبِينًا إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 144-145‏]‏‏.‏

وقال عن المنافقين‏:‏‏{‏وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إلى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 14‏]‏، كما قال عن الكفار المنافقين من أهل الكتاب‏:‏ ‏{‏وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ قَالُواْ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللّهُ عليكم لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 76‏]‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عليهم مَّا هُم مِّنكُمْ وَلَا مِنْهُمْ‏}‏، نزلت فيمن تولي إليهود من المنافقين وقال‏:‏ ‏{‏مَّا هُم مِّنكُمْ‏}‏، ولا من إليهود، ‏{‏وَيَحْلِفُونَ على الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَإلىوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 14 ـ 22‏]‏‏.‏ وقال‏:‏‏{‏أَلَمْ تَر إلى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 11‏]‏ إلى تمام القصة، وقال‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا على أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَي الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَي لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 25، 26‏]‏‏.‏

وتبين أن موالاة الكفار كانت سبب ارتدادهم على أدبارهم؛ ولهذا ذكر في ‏[‏سورة المائدة‏]‏ أئمة المرتدين عقب النهى عن موالاة الكفار قوله‏:‏ ‏{‏وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 51‏]‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هِادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَـذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 41‏]‏‏.‏

فذكر المنافقين، والكفار المهادنين، وأخبر أنهم يسمعون لقوم آخرين لم يأتوك، وهو استماع المنافقين والكفار المهادنين للكفار المعلنين الذين لم يهادنوا، كما أن في المؤمنين من قد يكون سماعا للمنافقين كما قال‏:‏ ‏{‏وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 47‏]‏‏.‏

وبعض الناس يظن أن المعني‏:‏ سماعون لأجلهم، بمنزلة الجاسوس ، أي‏:‏ يسمعون ما يقول وينقلونه إليهم، حتى قيل لبعضهم‏:‏ أين في القرآن الحيطان لها آذان ‏؟‏ قال‏:‏ في قوله‏:‏ ‏{‏وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ‏}‏‏.‏ وكذلك قوله‏:‏ ‏{‏سَمَّاعُونَ لِلْكَذِب‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 42‏]‏‏.‏ أي‏:‏ ليكذبوا‏:‏ إن اللام لام التعدية، لا لام التبعية؛ وليس هذا معني الآيتين، وإنما المعني فيكم من يسمع لهم، أي‏:‏ يستجيب لهم ويتبعهم‏.‏ كما في قوله‏:‏ ‏[‏سمع اللّه لمن حمده‏]‏ استجاب اللّه لمن حمده، أي‏:‏ قبل منه، يقال‏:‏ فلان يسمع لفلان، أي‏:‏ يستجيب له ويطيعه‏.‏

وذلك أن المسمع وإن كان أصله نفس السمع الذي يشبه الإدراك، لكن إذا كان المسموع طلبًا، ففائدته وموجبه الاستجابة والقبول‏.‏ وإذا كان المسموع خبرا، ففائدته التصديق والاعتقاد، فصار يدخل /مقصوده وفائدته في مسماه نفيا وإثباتا،فيقال‏:‏فلان يسمع لفلان، أي‏:‏ يطيعه في أمره، أو يصدقه في خبره‏.‏ وفلان لا يسمع ما يقال له، أي‏:‏ لا يصدق الخبر ولا يطيع الأمر، كما بين اللّه السمع عن الكفار في غير موضع، كقوله‏:‏ ‏{‏وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 171‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاء‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 45‏]‏؛ وذلك لأن سمع الحق يوجب قبـوله إيجاب الإحساس بالحركة، وإيجاب علم القلب حركة القلب، فإن الشعور بالملائم يوجب الحركة إليه، والشعور بالمنافر يوجب النفرة عنه‏.‏ فحيث انتفي موجب ذلك، دل على انتفاء مبدئه؛ ولهذا قال تعإلى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَي يَبْعَثُهُمُ اللّهُ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 36‏]‏‏.‏

ولهذا جعل سمع الكفار بمنزلة سمع البهائم لأصوات الرعاة، أي‏:‏ يسمعون مجرد الأصوات سمع الحيوان، لا يسمعون ما فيها ـ من تإلىف الحروف المتضمنة للمعاني ـ السمع الذي لابد أن يكون بالقلب مع الجسم، فقال تعإلى‏:‏‏{‏سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَـذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ‏}‏، يقول‏:‏ هم يستجيبونّ ‏{‏لِقَوْمٍ آخَرِينَ‏}‏، وأولئك ‏{‏لَمْ يَأْتُوكَ‏}‏، وأولئك ‏{‏يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ‏}‏ يقولون لهؤلاء الذين أتوك‏:‏ ‏{‏إِنْ أُوتِيتُمْ هَـذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ‏}‏، كما ذكروا في سبب نزول /الآية‏:‏ أنهم قالوا في حد الزنا، وفي القتل‏:‏ اذهبوا إلى هذا النبي الأمي، فإن حكم لكم بما تريدونـه، فاقبلوه، وإن حكم بغيره، فأنتم قد تركتم حكم التـوراة أفلا تتركون حكمه ‏؟‏‏!‏

فهذا هو استماع المتحاكمين من أولئك الذين لم يأتوه ولو كانوا بمنزلة الجاسوس، لم يخص ذلك بالسماع، بل يرون ويسمعون، وإن كانوا قد ينقلون إلى شياطينهم ما رأوه وسمعوه ، لكن هذا من توابع كونهم يستجيبون لهم ويوالونهم‏.‏

يبين ذلك أنه قال‏:‏ ‏{‏لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 47‏]‏ أي‏:‏ لأسرعوا بينكم يطلبون الفتنة بينكم، ثم قال‏:‏ وفيكم مستجيبون لهم إذا أوضعوا خلالكم؛ ولو كان المعني‏:‏ وفيكم من تجسس لهم، لم يكن مناسبا، وإنما المقصود أنهم إذا أوضعوا بينكم يطلبون الفتنة، وفيكم من يسمع منهم، حصل الشر‏.‏ وأما الجس، فلم يكونوا يحتاجون إليه، فإنهم بين المؤمنين، وهم يوضعون خلالهم‏.‏

مما يبين ذلك أنه قال‏:‏ ‏{‏سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 42‏]‏، فذكر ما يدخل في آذانهم وقلوبهم من الكلام، وما يدخل في أفواههم وبطونهم من الطعام‏:‏ غذاء الجسوم، وغذاء القلوب، فإنهما غذاءان /خبيثان‏:‏ الكذب والسحت‏.‏ وهكذا من يأكل السحت من البرطيل ونحوه، يسمع الكذب، كشهادة الزور؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏63‏]‏‏.‏

فلما كان هؤلاء يستجيبون لغير الرسول، كما يستجيبون له إذا وافق آراءهم وأهواءهم، لم يجب عليه الحكم بينهم، فإنهم متخيرون بين القبول منه، والقبول ممن يخالفه، فكان هو متخيرا في الحكم بينهم، والإعراض عنهم‏.‏ وإنما يجب عليه الحكم بين من لابد له منه من المؤمنين‏.‏

وإذا ظهر المعني، تبين فصل الخطاب في وجوب الحكم بين المعاهدين من أهل الحرب كالمستأمن، والمهادن، والذمي، فإن فيه نزاعا مشهوراً بين العلماء‏.‏ قيل‏:‏ ليس بواجب للتخير‏.‏ وقيل‏:‏ بل هو واجب، والتخيير منسوخ بقوله‏:‏ ‏{‏وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 49‏]‏‏.‏ قال الأولون‏:‏ أما الأمر هنا‏:‏ أن يحكم بما أنزل اللّه إذا حكم، فهو أمر بصفة الحكم، لا بأصله، كقوله‏:‏ ‏{‏وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 42‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 58‏]‏، وهذا أصوب، فإن النسخ لا يكون بمحتمل، فكيف بمرجوح‏؟‏ وقيل‏:‏ يجب في مظالم العباد دون غيرها‏.‏ والخلاف في ذلك مشهور في / مذهب الإمام أحمد، وغيره من الأئمة‏.‏

وحقيقة الآية‏:‏ إن كان مستجيبا لقوم آخرين، لم يأتوه، لم يجب عليه الحكم بينهم، كالمعاهد‏:‏ من المستأمن وغيره، الذي يرجع إلى أمرائه وعلمائه في دارهم، وكالذمي الذي إن حكم له بما يوافق غرضه وإلا رجع إلى أكابرهم وعلمائهم، فيكون متخيراً بين الطاعة لحكم اللّه ورسوله، وبين الإعراض عنه‏.‏ وأما من لم يكن إلا مطيعاً لحكم اللّه ورسوله، ليس عنه مندوحة، كالمظلوم الذي يطلب نصره من ظالمه، وليس له من ينصره من أهل دينه، فهذا ليس في الآية تخيير‏.‏ وإذا كان عقد الذمة قد أوجب نصره من أهل الحرب، فنصره ممن يظلمه من أهل الذمة أولي أن يوجب ذلك‏.‏

وكذلك لو كان المتحاكم إلى الحاكم والعالم من المنافقين الذين يتخيرون بين القبول من الكتاب والسنة،وبين ترك ذلك، لم يجب عليه الحكم بينهم‏.‏ وهذا من حجة كثير من السلف الذين كانوا لا يحدثون المعلنين بالبدع بأحاديث النبي صلي الله عليه وسلم‏.‏

ومن هذا الباب‏:‏ من لا يكون قصده في استفتائه وحكومته الحق، بل غرضه من يوافقه على هواه، كائنا من كان، سواء كان صحيحاً أو باطلا‏.‏ فهذا سماع لغير ما بعث اللّه به رسوله، فإن اللّه إنما بعث رسوله /بالهدي ودين الحق، فليس على خلفاء رسول اللّه أن يفتوه ويحكموا له، كما ليس عليهم أن يحكموا بين المنافقين والكافرين المستجيبين لقوم آخرين، لم يستجيبوا للّه ورسوله‏.‏

ومن جنس موالاة الكفار التي ذم اللّه بها أهل الكتاب والمنافقين‏:‏ الإيمان ببعض ما هم عليه من الكفر، أو التحاكم إليهم دون كتاب اللّه، كما قال تعإلى‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَي مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 51‏]‏‏.‏ وقد عرف أن سبب نزولها شأن كعب بن الأشرف ـ أحد رؤساء إليهود ـ لما ذهب إلى المشركين، ورجح دينهم على دين محمد وأصحابه‏.‏ والقصة قد ذكرناها في ‏[‏الصارم المسلول‏]‏ لما ذكرنا قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من لكعب بن الأشرف‏؟‏ فإنه قد آذي اللّه ورسوله‏)‏‏.‏

ونظير هذه الآية قوله ـ تعإلى ـ عن بعض أهل الكتاب‏:‏ ‏{‏وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللّهِ وَرَاء ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ على مُلْكِ سُلَيْمَانَ‏}‏ الآية ‏[‏البقرة‏:‏ 101، 102‏]‏‏.‏ فأخبر أنهم اتبعوا السحر وتركوا كتاب اللّه، كما يفعله كثير من إليهود، وبعض المنتسبين إلى الإسلام من اتباعهم كتب السحرة ـ أعداء إبراهيم وموسى ـ من المتفلسفة ونحوهم ،/وهو كإيمانهم بالجبت والطاغوت، فإن الطاغوت هو ‏:‏ الطاغي من الأعيان، والجبت‏:‏ هو من الأعمال والأقوال، كما قال عمر بن الخطاب‏:‏ الجبت السحر، والطاغوت الشيطان؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏العيافة والطيرة، والطرق من الجبت‏)‏‏.‏ رواه أبو داود‏.‏

وكذلك ما أخبر عن أهل الكتاب بقوله‏:‏ ‏{‏قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللّهِ مَن لَّعَنَهُ اللّهُ وَغَضِبَ عليه وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 60‏]‏ أي‏:‏ ومن عبد الطاغوت ، فإن أهل الكتاب كان منهم من أشرك، وعبد الطواغيت‏.‏

فهنا ذكر عبادتهم للطاغوت، وفي ‏[‏البقرة‏]‏ ذكر اتباعهم للسحر، وذكر في ‏[‏النساء‏]‏ إيمانهم بهما جميعا بالجبت والطاغوت‏.‏

وأما التحاكم إلى غير كتاب اللّه، فقد قال‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إلىكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إلى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إلى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإلى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 60، 61‏]‏‏.‏

والطاغوت‏:‏ فعلوت من الطغيان‏.‏ كما أن الملكوت‏:‏ فعلوت من الملك‏.‏ والرحموت، والرهبوت، والرغبوت‏:‏ فعلوت من الرحمة،/والرهبة، والرغبة‏.‏ والطغيان‏:‏ مجاوزة الحد، وهو الظلم والبغي‏.‏ فالمعبود من دون اللّه إذا لم يكن كارها لذلك‏:‏ طاغوت؛ ولهذا سمي النبي صلى الله عليه وسلم الأصنام طواغيت في الحديث الصحيح لما قال‏:‏ ‏(‏ويتبع من يعبد الطواغيت الطواغيت‏)‏‏.‏ والمطاع في معصية اللّه، والمطاع في اتباع غير الهدي ودين الحق ـ سواء كان مقبولا خبره المخالف لكتاب اللّه، أو مطاعا أمره المخالف لأمر اللّه ـ هو طاغوت؛ ولهذا سمي من تحوكم إليه، من حاكم بغير كتاب اللّه طاغوت، وسمي اللّه فرعون وعادا طغاة وقال في صيحة ثمود‏:‏ ‏{‏فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 5‏]‏‏.‏

فمن كان من هذه الأمة موإلىاً للكفار من المشركين أو أهل الكتاب، ببعض أنواع الموالاة، ونحوها‏:‏ مثل إتيانه أهل الباطل، واتباعهم في شيء من مقالهم، وفعالهم الباطل، كان له من الذم والعقاب والنفاق بحسب ذلك، وذلك مثل متابعتهم في آرائهم وأعمالهم، كنحو أقوال الصابئة وأفعالهم، من الفلاسفة ونحوهم، المخالفة للكتاب والسنة، ونحو أقوال إليهود، والنصاري، وأفعالهم المخالفة للكتاب والسنة، ونحو أقوال المجوس والمشركين وأفعالهم المخالفة للكتاب والسنة‏.‏

ومن تولي أمواتهم، أو أحياءهم، بالمحبة والتعظيم والموافقة، فهو منهم كالذين وافقوا أعداء إبراهيم الخليل‏:‏ من الكِلدانيين وغيرهم /من المشركين، عباد الكواكب أهل السحر، والذين وافقوا أعداء موسى، من فرعون وقومه بالسحر‏.‏ أو ادعي أنه ليس ثم صانع غير الصنعة، ولا خالق غير المخلوق، ولا فوق السموات إله، كما يقوله الاتحادية، وغيرهم من الجهمية‏.‏ والذين وافقوا الصابئة والفلاسفة فيما كانوا يقولونه في الخالق، ورسله‏:‏ في أسمائه وصفاته ، والمعاد، وغير ذلك‏.‏

ولا ريب أن هذه الطوائف، وإن كان كفرها ظاهراً، فإن كثيرا من الداخلين في الإسلام، حتى من المشهورين بالعلم، والعبادة، والإمارة، قد دخل في كثير من كفرهم، وعظمهم، ويري تحكيم ما قرروه من القواعد ونحو ذلك‏.‏ وهؤلاء كثروا في المستأخرين، ولبسوا الحق الذي جاءت به الرسل بالباطل الذي كان عليه أعداؤهم‏.‏

واللّه ـ تعإلى ـ يحب تمييز الخبيث من الطيب، والحق من الباطل، فيعرف أن هؤلاء الأصناف منافقون، أو فيهم نفاق ، وإن كانوا مع المسلمين، فإن كون الرجل مسلما في الظاهر لا يمنع أن يكون منافقاً في الباطن، فإن المنافقين كلهم مسلمون في الظاهر، والقرآن قد بين صفاتهم وأحكامهم‏.‏ وإذا كانوا موجودين على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وفي عزة الإسلام، مع ظهور أعلام النبوة، ونور الرسالة، فهم مع بعدهم عنهما أشد وجودا، لاسيما وسبب النفاق هو سبب الكفر، وهو المعارض لما جاءت به الرسل‏.‏

/ وَسئل ـ رَحمه اللّه ـ عمن يجب أو يجوز بغضه أو هجره، أو كلاهما للّه تعإلى‏؟‏ وماذا يشترط على الذي يبغضه أو يهجره للّه ـ تعإلى ـ من الشروط‏؟‏ وهل يدخل ترك السلام في الهجران أم لا ‏؟‏ وإذا بدأ المهجور الهاجر بالسلام هل يجب الرد عليه أم لا ‏؟‏ وهل يستمر البغض والهجران للّه ـ عز وجل ـ حتى يتحقق زوال الصفة المذكورة التي أبغضه وهجره عليها أم يكون لذلك مدة معلومة‏؟‏ فإن كان لها مدة معلومة، فما حدها‏؟‏ أفتونا مأجورين‏.‏

فأجاب‏:‏

الهجر الشرعي نوعان‏:‏ أحدهما ‏:‏ بمعني الترك للمنكرات‏.‏ والثاني ‏:‏ بمعني العقوبة عليها‏.‏

فالأول‏:‏ هو المذكور في قوله تعإلى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حتى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 68‏]‏‏.‏ وقوله تعإلى‏:‏ ‏{‏وَقَدْ نَزَّلَ عليكم فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حتى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 140‏]‏‏.‏

فهذا يراد به أنه لا يشهد المنكرات لغير حاجة، مثل قوم يشربون الخمر، يجلس عندهم‏.‏ وقوم دعوا إلى وليمة فيها خمر وزمر لا يجيب دعوتهم، وأمثال ذلك‏.‏ بخلاف من حضر عندهم للإنكار عليهم، أو حضر بغير اختياره؛ ولهذا يقال‏:‏ حاضر المنكر كفاعله‏.‏ وفي الحديث‏:‏ ‏(‏من كان يؤمن باللّه وإلىوم الآخر، فلا يجلس على مائدة يشرب عليها الخمر‏)‏‏.‏ وهذا الهجر من جنس هجر الإنسان نفسه عن فعل المنكرات‏.‏ كما قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏المهاجر من هجر ما نهى اللّه عنه‏)‏‏.‏

ومن هذا الباب الهجرة من دار الكفر والفسوق إلى دار الإسلام والإيمان، فإنه هجر للمقام بين الكافرين والمنافقين الذين لا يمكنونه من فعل ما أمر اللّه به، ومن هذا قوله تعإلى‏:‏ ‏{‏وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 5‏]‏‏.‏

النوع الثاني‏:‏ الهجر على وجه التأديب، وهو هجر من يظهر المنكرات، يهجر حتى يتوب منها، كما هجر النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون الثلاثة الذين خلفوا، حتى أنزل اللّه توبتهم، حين ظهر منهم ترك الجهاد المتعين عليهم بغير عذر، ولم يهجر من أظهر الخير،/وإن كان منافقاً‏.‏ فهنا الهجر هو بمنزلة التعزير‏.‏

والتعزير يكون لمن ظهر منه ترك الواجبات، وفعل المحرمات، كتارك الصلاة والزكاة والتظاهر بالمظالم والفواحش، والداعي إلى البدع المخالفة للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة التي ظهر أنها بدع‏.‏

وهذا حقيقة قول من قال من السلف والأئمة‏:‏ إن الدعاة إلى البدع لا تقبل شهادتهم، ولا يصلي خلفهم، ولا يؤخذ عنهم العلم، ولا يناكحون‏.‏ فهذه عقوبة لهم حتى ينتهوا؛ ولهذا يفرقون بين الداعية وغير الداعية؛ لأن الداعية أظهر المنكرات، فاستحق العقوبة، بخلاف الكاتم، فإنه ليس شرا من المنافقين الذين كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل علانيتهم، ويكل سرائرهم إلى اللّه، مع علمه بحال كثير منهم؛ ولهذا جاء في الحديث‏:‏ ‏(‏إن المعصية إذا خفيت، لم تضر إلا صاحبها، ولكن إذا أعلنت فلم تنكر، ضرت العامة‏)‏‏.‏ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه، أوشك أن يعمهم اللّه بعقاب منه‏)‏‏.‏

فالمنكرات الظاهرة يجب إنكارها، بخلاف الباطنة فإن عقوبتها على صاحبها خاصة‏.‏

/وهذا الهجر يختلف باختلاف الهاجرين في قوتهم وضعفهم وقلتهم وكثرتهم، فإن المقصود به زجر المهجور وتأديبه ورجوع العامة عن مثل حاله‏.‏ فإن كانت المصلحة في ذلك راجحة بحيث يفضي هجره إلى ضعف الشر وخفيته، كان مشروعا‏.‏ وإن كان لا المهجور ولا غيره يرتدع بذلك، بل يزيد الشر، والهاجر ضعيف، بحيث يكون مفسدة ذلك راجحة على مصلحته، لم يشرع الهجر، بل يكون التإلىف لبعض الناس أنفع من الهجر‏.‏

والهجر لبعض الناس أنفع من التإلىف؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يتألف قوماً ويهجر آخرين‏.‏ كما أن الثلاثة الذين خلفوا كانوا خيراً من أكثر المؤلفة قلوبهم، لما كان أولئك كانوا سادة مطاعون في عشائرهم، فكانت المصلحة الدينية في تإلىف قلوبهم، وهؤلاء كانوا مؤمنين، والمؤمنون سواهم كثير، فكان في هجرهم عز الدين، وتطهيرهم من ذنوبهم، وهذا كما أن المشروع في العدو القتال تارة، والمهادنة تارة، وأخذ الجزية تارة، كل ذلك بحسب الأحوال والمصالح‏.‏

وجواب الأئمة كأحمد وغيره في هذا الباب مبني على هذا الأصل؛ ولهذا كان يفرق بين الأماكن التي كثرت فيها البدع، كما كثر القدر في البصرة، والتنجيم بخراسان، والتشيع بالكوفة، وبين ما ليس /كذلك، ويفرق بين الأئمة المطاعين وغيرهم، وإذا عرف مقصود الشريعة سلك في حصوله أوصل الطرق إليه‏.‏

وإذا عرف هذا، فالهجرة الشرعية هي من الأعمال التي أمر الله بها ورسوله‏.‏ فالطاعة لابد أن تكون خالصة لله، وأن تكون موافقة لأمره، فتكون خالصة لله صوابا، فمن هجر لهوي نفسه، أو هجر هجرًا غير مأمور به، كان خارجًا عن هذا، وما أكثر ما تفعل النفوس ما تهواه، ظانة أنها تفعله طاعة لله‏.‏

والهجر لأجل حظ الإنسان لا يجوز أكثر من ثلاث، كما جاء في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال‏:‏ ‏(‏لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث؛ يلتقيان فيصد هذا ويصد هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام‏)‏‏.‏ فلم يرخص في هذا الهجر أكثر من ثلاث، كما لم يرخص في إحداد غير الزوجة أكثر من ثلاث‏.‏ وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏تفتح أبواب الجنة كل اثنين وخميس، فيغفر لكل عبد لا يشرك باللّه شيئاً، إلا رجلا كان بينه وبين أخيه شحناء، فيقال‏:‏ أنظروا هذين حتى يصطلحا‏)‏‏.‏ فهذا الهجر لحق الإنسان حرام، وإنما رخص في بعضه، كما رخص للزوج أن يهجر امرأته في المضجع إذا نشزت‏.‏ وكما رخص في هجر الثلاث‏.‏

فينبغي أن يفرق بين الهجر لحق اللّه،وبين الهجر لحق نفسه‏.‏/ فالأول مأمور به‏.‏ والثاني منهى عنه؛ لأن المؤمنين إخوة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح‏:‏ ‏(‏لا تقاطعوا، ولا تدابروا، ولا تباغضوا، ولا تحاسدوا، وكونوا عباد اللّه إخواناً، المسلم أخو المسلم‏)‏، وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي في السنن‏:‏ ‏(‏ألا أنبئكم بأفضل من درجة الصلاة، والصيام، والصدقة، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر‏؟‏‏)‏ قالوا‏:‏ بلي يا رسول اللّه ‏!‏ قال‏:‏ ‏(‏إصلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة، لا أقول‏:‏ تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين‏)‏‏.‏ وقال في الحديث الصحيح‏:‏ ‏(‏مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذ اشتكي منه عضو، تداعي له سائر الجسد بالحمي والسهر‏)‏‏.‏

وهذا لأن الهجر من باب العقوبات الشرعية‏.‏ فهو من جنس الجهاد في سبيل اللّه‏.‏ وهذا يفعل لأن تكون كلمة اللّه هي العليا، ويكون الدين كله للّه‏.‏ والمؤمن عليه أن يعادي في اللّه، ويوإلى في اللّه، فإن كان هناك مؤمن، فعليه أن يوإليه وإن ظلمه، فإن الظلم لا يقطع الموالاة الإيمانية، قال تعإلى‏:‏ ‏{‏وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا على الْأُخْرَي فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حتى تَفِيءَ إلى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 9، 10‏]‏، فجعلهم إخوة /مع وجود القتال والبغي والأمر بالإصلاح بينهم‏.‏

فليتدبر المؤمن الفرق بين هذين النوعين، فما أكثر ما يلتبس أحدهما بالآخر، وليعلم أن المؤمن تجب موالاته وإن ظلمك واعتدي علىك ، والكافر تجب معاداته وإن أعطاك وأحسن إلىك‏.‏ فإن اللّه ـ سبحانه ـ بعث الرسل وأنزل الكتب ليكون الدين كله للّه، فيكون الحب لأوليائه والبغض لأعدائه، والإكرام لأوليائه، والإهانة لأعدائه، والثواب لأوليائه والعقاب لأعدائه‏.‏

وإذا اجتمع في الرجل الواحد خير وشر، وفجور وطاعة، ومعصية وسنة وبدعة، استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير، واستحق من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشر، فيجتمع في الشخص الواحد موجبات الإكرام والإهانة، فيجتمع له من هذا وهذا، كاللص الفقير تقطع يده لسرقته، ويعطي من بيت المال ما يكفيه لحاجته‏.‏

هذا هو الأصل الذي اتفق عليه أهل السنة والجماعة، وخالفهم الخوارج والمعتزلة ومن وافقهم عليه، فلم يجعلوا الناس إلا مستحقا للثواب فقط، وإلا مستحقا للعقاب فقط‏.‏ وأهل السنة يقولون‏:‏ إن اللّه يعذب بالنار من أهل الكبائر من يعذبه، ثم يخرجهم منها بشفاعة من يأذن /له في الشفاعة بفضل رحمته، كما استفاضت بذلك السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ واللّه ـ سبحانه وتعالى ـ أعلم، وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين‏.‏